3 – 2 – 1. تعبئة الاستثمار
إن أهمية هذا الموضوع الحيوي تتطلب إيضاح النقاط التالية:
• يرتدي هذا الموضوع أهمية خاصة، إذا ما عرفنا أن اتفاقية الشراكة السورية الأوربية لا تنطوي على أي نص يقتضي بتعويض عجز ميزاننا التجاري، الذي سيتصاعد مع الاتحاد الأوربي بعد تطبيق الاتفاقية، بتدفق مناظر للاستثمار نحو سورية، كما تفعل الولايات المتحدة مع المكسيك، باعتبار التوازن بين تدفق السلع وتدفق الاستثمارات يشكل هدفاً نصت عليه اتفاقية "النافتا" NAFTA. وهذا ا فعلته اليابان أيضاً مع جاراتها في شرق آسية.
• إن تعبئة الاستثمارات الوطنية من الادخار المحلي هي الأساس ويجب أن تكون الأصل. والنجاح في -اجتذابها واجتذاب استثمارات المغتربين السوريين– هو الشرط المسبق لاجتذاب الاستثمارات الأجنبية، على أن نتنبه إلى ضرورة قصرها على الاستثمارات المباشرة FDI وتوجيهها نحو القطاعات ذات الأولوية والتي من شأنها تدعيم القدرة التكنولوجية الوطنية، وأن لا نسمح بتوظيفها في الاستثمار المالي (في الحفاظ أو للمضاربة الوطنية). ولنا في الأزمة التي عصفت بدول شرق وجنوب شرق آسية عام 1997، وتلك التي أحاقت ببورصة القاهرة قبل عامين، شاهد قاطع على خطورة الاستثمار المالي على الاقتصاد الوطني.
• صحيح أن القطاع الخاص يتحمل مسؤولية هامة في تعبئة الاستثمار وضخمة جداً في توظيفه، ولكن صحيح أيضاً أن التجربة التاريخية في شرق آسية أفادت بأن الدولة كانت المحرك الأول والعنصر الأساسي في تمويل السياسة الصناعية، خاصة بما يسمى (Fiscal Investment and Loans) FIL . وقد تم ذلك، ليس من موارد الميزانية العادية، ولكن باستخدام موارد من خارج الميزانية (مثل القروض الخارجية بضمان الدولة والودائع الخاصة لدى بنوك القطاع العام وصناديق التوفير وصناديق التقاعد). وجدير بالذكر أن هذه القروض لا تظهر في الإحصاءات التي ينشرها صندوق النقد الدولي ( IMF) كجزء من الإنفاق العام. غير أنها بلغت حجماً يماثل الإنفاق العام المدرج في الميزانية تقريباً. ووفقاً لتقديرات صندوق النقد الدولي فقد بلغت نسبة إنفاق السلطات العامة في اليابان (الميزانية العادية) 15-20%. من الناتج المحلي الإجمالي خلال السبعينيات والثمانينيات. إلا أن هذه النسبة تصل، إذا ما أضفنا تلك القروض إلى 35-45%. ويصدق الأمر نفسه على كورية إذ يتضاعف حجم الإنفاق العام إذا ما أضيفت له القروض. وترفع، وبصورة ملحوظة جداً، نسبة عجز الموازنة إلى الناتج المحلي الإجمالي (من 1-11%).
• أولويات الاستثمار: لا بد من تحديد واضح لهذه الأولويات تجنباً لنمو عشوائي غير متوازن.
I. فعلى مستوى الصناعة يمكن أن تسير على التوازي في:
1. خط الصناعة التقليدية والتكنولوجية الوسيطة، أي صناعة النسيج والألبسة،إذ يجب تصنيع القطن السوري بكامله وتصديره نسيجاً وألبسة، والصناعات الغذائية الخاصة بتصنيع المنتجات الزراعية المحلية بدءاً من القمح مروراً بالزيتون وانتهاءً بالخضار والفواكه.
2. خط التكنولوجية العالية مثل صناعة المكونات أو قطع الغيار الميكانيكية والكهربائية، التي تنتج عادة من خلال العقود الفرعية Subcontracting، وهي تنطوي على تشكيلة واسعة جداً وتحقق حداً عالياً من القيمة المضافة، كما يتعاظم التوجه لدى الدول المتقدمة لتعميم هذا النوع من العقود مع الدول النامية، التي تتوفر لديها شروط التصنيع المناسب لهذه السلع جودة وتكلفة.
3. خط التكنولوجية الرفيعة والمتطورة القائمة على ثورة المعلوماتية التي تجسد المستقبل: صناعة المكونات الإلكترونية وصناعة البرمجة وتطبيقاتها، والتي يمكن أن تصبح سورية معها مركزاً لتصدير خدماتها إذا ما تابعنا وطورنا مسيرة الرعاية التي تحظى بها المعلوماتية من جهة أخرى.
II. وعلى مستوى التجارة يمكن التركيز على هدفين: أولهما إقامة شركات متخصصة بتصدير الإنتاج الزراعي والصناعي والحرفي السوري، بحيث تشكل صلة الوصل بين المنتج المحلي والمستورد الخارجي، كما هو الحال في الدول الآسيوية، وهذا عمل يتطلب مهارات خاصة ونفقات هامة لتعميق المعرفة بالأسواق الخارجية وتكوين شبكة العملاء فيها، وهو أمر تعجز منشآتنا الإنتاجية عن القيام منفردة به. وثانيهما هو تشكيل الشركات القابضة (Holding co.) مهمتها تنشيط الاستثمار من خلال اكتشاف فرصه، والترويج لها لدى المستثمرين والمواطنين. وتساهم هي بنسبة لا تتجاوز 5-10% في كل مشروع. بحيث تضفي على المشروع المصداقية التي تجتذب المستثمر.
III. وعلى مستوى السياحة فمن الضروري توظيف ثراء سورية الاستثنائي بالمواقع السياحية بصورة أكثر فعالية من خلال إيجاد البيئة التحتية المادية، وخاصة فنادق الثلاث نجوم والبنية الفوقية بتأهيل الأفراد العاملين في السياحة وتطوير النمط السياحي ليشمل السياحة الجماعية لكافة الشرائح متوسطة الدخل وتوفير التمويل اللازم للتسليف السياحي، ومنح التسهيلات للمجموعات السياحية إلى سياحة التسوق والسياحة العائلية والفردية. لأن السائح من هاتين المجموعتين ينفق في البلد أضعاف ما ينفقه سائح المجموعات السياحية.
IV. أما على مستوى الخدمات فإن سورية تفتقد حلقة هامة من سلسلتها، وهي بيوت الخبرة الاستثمارية المتكاملة التي تدرس اقتصادية المشروع وتضع تصميماته وتشرف على تنفيذه، سواء في مشاريع البنية التحتية من طرق وجسور وسدود وأبنية، أو في المشاريع الصناعية حيث تقوم هذه المكاتب بدراسة الجدوى الأولية ثم التفصيلية بما فيها اختيار المنتج المناسب وتحديد البدائل التكنولوجية وتصميم الخط الإنتاجي ووضع خطة لتأهيل وتدريب المدراء والمهندسين والفنيين منذ بداية التنفيذ. صحيح أن عامل الطلب على هذه الخدمات كان مفقوداً، إذ لم تعره الدولة أي اهتمام يذكر في كل الاستثمارات التي نفذتها خلال العقود الفائتة، مفضلة التعاقد بطريقة المفتاح باليد ( Turn Key Job). كما أن القطاع الخاص لم يلجأ لمثل هذه الخدمات، مع أنه ينفق مئات الملايين على شراء المعدات والآلات والأعمال الإنشائية، ويبخل بالجزء اليسير منها للإنفاق على مثل هذا العمل الذي يحكم مستقبل المشروع. وهذا يفسر إلى حد كبير كثيراً من الظواهر السلبية. كانخفاض معدلات التشغيل وارتفاع التكلفة، ناهيك عن المفاجآت الكثيرة التي يواجهها المستثمر بعد البدء بالتشغيل. ولكن صحيح أيضاً أن جانب العرض كان ولا يزال –بصورة عامة- غائباً. علماً بأن البيوت الاستشارية تلعب دوراً حيوياً في الدول المتقدمة أو لدى النمور الآسيوية، وتمثل مراكز هامة لتراكم الخبرة. ويجب بهذا الصدد، التذكير بضرورة ربط أي ترخيص لأي مشروع يتجاوز حجم الاستثمار فيه حداً معيناً، بتقديم دراسة جدوى بالمعنى المهني للكلمة، وليس بمجرد ملء استمارة كتلك التي تقدم إلى مكتب الاستثمار للتشميل بالقانون رقم /10/. ففي ذلك مصلحة للمستثمر قبل اية جهة أخرى.